شهدت الشوارع المغربية في الأيام الأخيرة، وبشكل أكثر وضوحا خلال خريف الغضب الأخير، موجة من الاحتجاجات الشبابية التي عبرت عن استياء واسع من الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد.
هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد صرخة عابرة، بل انعكاسا لمجموعة من التحديات المتشابكة التي تواجه الجيل الجديد، لا سيما من حيث فرص التعليم، والتوظيف، والقدرة على التعبير عن الذات والمشاركة في الحياة العامة.
الدراسات الحديثة التي تناولت سلوك الشباب المغربي تكشف عن الديناميكيات نفسها التي ظهرت على أرض الواقع خلال هذه الاحتجاجات. فالشباب المغربي، سواء من أجيال Y وZ، يُظهر طموحا مهنيا ومجتمعيا كبيرا، ورغبة في بيئة تعليمية وعملية محفزة ومرنة، قادرة على تطوير مهاراته ومواهبه. ومع ذلك، يُواجه قيودا محلية تجعل تحقيق هذه الطموحات صعبا، سواء بسبب البطالة، أو فجوة التعليم والتكوين مع متطلبات السوق، أو ضعف الحوافز الاقتصادية والمهنية.
الاحتجاجات الأخيرة إذن ليست مجرد رفض عابر، بل تجسيد مباشر للتوتر بين توقعات الشباب وإمكانات الدولة والمجتمع، بين الطموح الشخصي وغياب المسارات الواضحة للترقية المهنية والاجتماعية.
ومن منظور بعض الدراسات، يمكن رؤية هذه الاحتجاجات بوصفها نتيجة طبيعية للتفاعل المعقد بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والمهنية، التي دفعت الشباب للبحث عن فضاءات أوسع للتعبير عن أنفسهم، سواء عبر الشارع، أو عبر الفضاء الرقمي، أو حتى عبر الهجرة إلى الخارج.
بهذا المعنى، تشكل الاحتجاجات امتدادا حيا للظواهر التي تناولتها الدراسات الأكاديمية، إذ تجمع بين الطموح الرقمي، والوعي الاجتماعي، والرغبة في الابتكار، والحاجة إلى بيئة تحترم المبادرة الفردية وتفتح المجال للشباب ليصبحوا فاعلين حقيقيين في مستقبل بلادهم.
هكذا يشهد المغرب اليوم ولادة جيل جديد ومختلف تماما عن الأجيال السابقة، جيل Z، الذي نشأ في عالم متصل بالشبكات الرقمية والإنترنت، حيث أصبحت التكنولوجيا جزءا أساسيا من حياته اليومية.
هذا الجيل، الذي يتراوح عمره بين 18 و29 سنة، يعيش في فضاء مزدوج: الواقع التقليدي للمجتمع المغربي، والفضاء الرقمي المفتوح بلا حدود. إنه جيل واع، وطموح، ومتعلم، وسريع التأقلم مع التحولات الاجتماعية والتكنولوجية.
ولأجل فهم هذا الجيل بعمق، قدمت عدة دراسات حديثة لمحات شاملة عن جوانب حياته، من الهجرة المهنية في قطاع تكنولوجيا المعلومات، إلى الصراعات بين الأجيال في بيئة العمل، ومن لغة الشباب الحديثة وثقافتهم الرقمية، وصولا إلى توقعاتهم من المؤسسات التعليمية وطموحاتهم المهنية.
إدارة الصراعات بين الأجيال في المنظمات المغربية
تتناول دراسة “إدارة الصراعات بين الأجيال في المنظمات المغربية: اقتراح نموذج مفاهيمي ونظري للبحث”، التي نشرها الباحثان جان نغاندو كونيما ويوسف خطوري في مجلة African Scientific Journal، ظاهرة الصراعات بين الأجيال داخل المنظمات المغربية.
وترى الدراسة أن هذه الصراعات أصبحت أحد أبرز التحديات المعاصرة نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. وتهدف الدراسة إلى تقديم إطار مفاهيمي ونموذج نظري لفهم ديناميات هذه الصراعات وإدارة آثارها على الأداء التنظيمي.
في قلب المنظمات المغربية، حيث تتلاقى خبرات الأجيال المختلفة، تظهر ظاهرة الصراعات بين الأجيال بوصفها أحد أبرز التحديات المعاصرة. هذه الصراعات ليست مجرد سوء تفاهم بين كبار السن والشباب، بل هي انعكاس للفوارق الثقافية والاجتماعية والمهنية التي تتشكل مع تغير الزمن والتكنولوجيا. تقدم الدراسة نموذجا لفهم هذه الظاهرة، وتطرح استراتيجيات عملية لإدارتها بشكل فعال.
المنظمات المغربية تشهد اليوم لقاء يوميا بين جيل الخبرة وجيل الشباب. لكل منهما قيمه وطريقته في العمل والتواصل، ما يولد أحيانا احتكاكات وصراعات خفية أو واضحة. فالأجيال القديمة تميل إلى الالتزام بالخبرة التقليدية والتراتبية الواضحة، بينما يبحث الشباب عن المرونة والابتكار والاستقلالية. هذا التباين يولد توترا طبيعيا، لكنه يحمل أيضا فرصا للتعلم المتبادل، إذا أٌحْسِن التعامل معه.
توضح الدراسة أن الصراعات لا تنشأ من فراغ، بل تتغذى على ثلاثة محاور رئيسية: الاختلافات الثقافية: كل جيل ينشأ في ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة، تؤثر على طريقة تفكيره وتواصله. ما يعتبره جيل الخبرة احتراما للنظام، يراه الشباب تقييدا للحرية.
التوقعات المهنية: الأجيال تختلف في فهمها للتقدم الوظيفي والمسؤوليات. فالشباب يبحث عن فرص سريعة للنمو والإنجاز، بينما يركز القدامى على الخبرة الطويلة والالتزام بالمسار التقليدي.
أساليب العمل والتكنولوجيا: التباين في استخدام التكنولوجيا وطرق إنجاز المهام يخلق فجوة عملية. بينما يتعامل الشباب بطبيعة الحال مع الأدوات الرقمية الحديثة، قد يشعر كبار السن بالتحدي أمام هذه السرعة المتغيرة.
هذه العوامل مجتمعة تجعل الصراع بين الأجيال قضية معقدة، لكنها قابلة للفهم والإدارة، لذا تطرح الدراسة نموذجا نظريا يساعد المنظمات على قراءة ديناميات الصراع وفهمها. هذا النموذج يشدد على أن فهم الاختلافات بين الأجيال ليس هدفا في حد ذاته، بل وسيلة لتطوير استراتيجيات تقلل الاحتكاك وتعزز التعاون.
النموذج يركز على التوازن بين احترام خبرات الأجيال القديمة وتشجيع الابتكار لدى الشباب، ويؤكد أن الصراع يمكن تحويله إلى مصدر قوة إذا تم توجيهه بوعي.
من خلال تحليله، يقدم البحث مجموعة من التوصيات العملية: (برامج تدريبية متخصصة: لتعريف الموظفين بالاختلافات الثقافية والسلوكية بين الأجيال وتعزيز فهمهم المشترك/ تعزيز قنوات التواصل: لتبادل الخبرات والأفكار بين الأجيال المختلفة بشكل منتظم وشفاف/ تكييف السياسات التنظيمية: لتأخذ في الاعتبار الاحتياجات المتنوعة لكل جيل، سواء من حيث العمل أو التقدير أو الفرص المهنية).
هذه الاستراتيجيات تهدف إلى بناء بيئة عمل مرنة، تقلل الصراعات وتفتح المجال للإبداع والابتكار الجماعي.
فالصراع بين الأجيال في المنظمات المغربية ليس مشكلة يجب تجاهلها، بل تحدٍ يمكن تحويله إلى فرصة للتعلم والنمو المشترك. عبر فهم الاختلافات، وإعادة بناء آليات التواصل، وإرساء سياسات عادلة، يمكن للمنظمات أن تحول الاحتكاكات اليومية إلى محرك للتطور والابتكار.
الدراسة تؤكد، أن إدارة الصراع بنجاح تتطلب وعيا ثقافيا وتنظيميا، وصبرا، وتفهما عميقا لديناميات الأجيال المختلفة، لتصبح بيئة العمل مساحة للتعاون، لا النزاع.
الحداثة اللغوية في ثقافة الشباب.. السياق اللغوي المغربي
في أي مقهى أو بيت أو مكان يمكن أن ترى شابا يحمل هاتفه، يحرر رسالة لصديقه على واتساب أو يتابع فيديو على تيك توك. كلمات عربية ممزوجة بالفرنسية والإنجليزية تتناثر على الشاشة، مختصرة أحيانا برمز تعبيري أو اختصار رقمي، وكأن كل حرف يحمل قصة من عالمه الرقمي. هذا المشهد يعكس تماما ما كشفت عنه دراسة أسية أيت ماما في مجلة Journal of English Language Teaching and Linguistics
حول الحداثة اللغوية في ثقافة الشباب المغربي
تشير الدراسة إلى أن الشباب المغربي لم يعد يستخدم اللغة كما في الماضي، فقد أصبح كل فرد منهم صانعا للغة الخاصة به. هم يمزجون بين العربية الدارجة والفرنسية والإنجليزية، وأحيانا الأمازيغية، في محادثاتهم اليومية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. هذه المزج اللغوي ليس مجرد هواية، بل هو تعبير عن الهوية والانتماء لجيل وُلد في عالم رقمي، حيث سرعة التواصل والمحتوى اللحظي تفرض أسلوبا جديدا في التعبير.
وليس الأمر مقتصرا على المزج بين الكلمات، بل يتعداه إلى التبديل اللغوي داخل الجملة الواحدة. فالشباب يكتبون كلمة بالعربية، ثم يضيفون أخرى بالفرنسية أو الإنجليزية، ثم يختتمون بالإيموجي الذي يعكس المشاعر الدقيقة التي يريدون التعبير عنها. هذه الظاهرة توضح قدرة الشباب على التكيّف مع التنوع الثقافي والاجتماعي في المغرب، وعلى ابتكار طرق للتواصل السلس مع أقرانهم في فضاء متعدد اللغات.
أما الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبحا محركا رئيسيا لتغيير اللغة. اختصارات، ورموز، ومصطلحات مستعارة من الإنجليزية صارت جزءا لا يتجزأ من طريقة التعبير اليومية. اللغة لم تعد وسيلة للتسلية فحسب، بل أصبحت أداة لإظهار الانتماء، وبناء هوية رقمية واضحة، تمكن الشباب من التفاعل مع العالم الرقمي بحرية وإبداع.
الدراسة تبرز أيضا، الاختلافات بين الجنسين، حيث يميل الذكور إلى استخدام لغة أكثر جرأة، وغالبا غير تقليدية، بينما تختار الإناث لغة أكثر اعتدالا وتنظيما، مما يعكس تأثير المعايير الاجتماعية والثقافية على أنماط التعبير اللغوي.
من خلال كل هذه الظواهر، يظهر جيل Z المغربي كعباقرة صغار في إعادة صياغة اللغة. هم يدمجون التقليدي بالحديث والمحلي بالعالمي ليخلقوا مساحة لغوية مفعمة بالمرونة والإبداع. اللغة بالنسبة لهم ليست مجرد وسيلة تواصل، بل فضاء للابتكار وبناء الذات والهوية، وأداة للتعبير عن انتمائهم لعصر متصل بالعالم الرقمي بكل سرعة وتغيراته.
في النهاية، تضع هذه الدراسة صورة واضحة لشباب مغربي واعٍ بالتحولات اللغوية والثقافية التي يعيشها، جيل يُعيد تعريف اللغة كما يعرِّف العالم، ويحول كل كلمة، وكل اختصار، وكل رمز تعبيري إلى تجربة جديدة للتعبير عن ذاته في عالم سريع ومترابط.
حياة رقمية تتجاوز الواقع
في صباح رقمي عادي من أيام الشباب المغربي، يفتح كثيرون أعينهم على ضوء الهاتف قبل أن تلمس أقدامهم الأرض. لا يفتتحون يومهم بوجبة فطور أو جريدة ورقية كما كان يفعل والدهم، بل بتمرير سريع على شاشة “إنستغرام” ليتفقدوا القصص الجديدة لأصدقائهم، ثم قفزة إلى “تيك توك” بحثا عن موجة جديدة أو مؤثر صاعد. هذه اللحظات العابرة تختصر واقع جيل كامل لم يعرف عالما بلا إنترنت، جيل يعيش ويتنفس عبر الشبكات، ويعيد تعريف معنى التواصل الإنساني كل يوم.
دراسة حديثة أجرتها مؤسستا OpinionWay Maroc وSaga Communication، تحت عنوان «Maroc Connecté: tendances de la GEN Z sur les réseaux sociaux»، تحاول التقاط هذا الإيقاع الجديد الذي يرسم ملامح جيل Z المغربي. الدراسة استهدفت شبابا تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة، لتكشف عن تحول عميق في العلاقة بين الفرد والعالم الرقمي. الأرقام تتحدث بوضوح: نحو 43% من الشباب المغاربة يقضون ما بين ثلاث إلى خمس ساعات يوميا على منصات التواصل الاجتماعي. لكن ما يبدو في الظاهر وقتا للترفيه، يخفي في العمق نمط حياة متكامل، تُدار فيه الصداقات والمشاعر وحتى الطموحات المهنية من خلف الشاشات.
تقول مريم عبد المولى، المديرة العامة لشركة OpinionWay Maroc: “جيل Z هو الجيل الوحيد الذي لم يعرف عالما بدون الإنترنت أو الهواتف الذكية أو الشبكات الاجتماعية”. هذه الجملة تبدو أقرب إلى مفتاح لفهم هوية جديدة، جيل لم يُخترع في المدارس أو الأزقة، بل وُلد داخل شبكات “الويفي” وتغذى على المحتوى البصري واللحظي. بالنسبة له، التواصل الافتراضي ليس بديلا عن اللقاء الواقعي، بل هو الواقع نفسه، بتفاصيله وإيقاعه.
ومن بين المفاجآت التي كشفتها الدراسة أن إنستغرام ما يزال يحتفظ بمكانته منصة مفضلة لأكثر من نصف الشباب المغربي، رغم الزحف الهائل لـ “تيك توك” الذي يفاخر بعدد حساباته المتزايد في البلاد. السبب كما يبدو أن إنستغرام يقدم للشباب مساحة لصياغة “صورتهم المثالية”، لعرض الذات كما يريدون أن تُرى، في حين يوفر “تيك توك” متنفسا للمرح العفوي والمحتوى السريع. بين هذين العالمين يتأرجح الشاب المغربي اليوم، بين الرغبة في الجمال المصقول، والبحث عن التلقائية التي تُشبهه أكثر.
العلاقة بالمؤثرين أيضا تكشف جانبا مثيرا من المشهد، فالشباب يتابعونهم بإعجاب، ويستمدون منهم إلهاما في الموضة واللغة والموسيقى، لكنهم في الوقت ذاته يشككون في نواياهم حين يتعلق الأمر بالمحتوى الإعلاني. إنهم جيل واع بتقنيات الإقناع، مدرَّب بالفطرة على التمييز بين ما هو “أصيل” وما هو “ممَوَّل”. وهنا، يتجلى نضج جديد في ثقافة الاستهلاك، نضج يقوم على الحس النقدي رغم الطابع السريع للحياة الرقمية.
ومع أن الدافع الأول لاستخدام المنصات يظل التسلية، فإن الدراسة تشير إلى أن جيل Z المغربي يستخدمها كذلك منصة للتعبير عن الرأي، ومناقشة القضايا الاجتماعية والبيئية، وحتى السياسية أحيانا. بالنسبة لكثيرين منهم، لم يعد العالم الرقمي مجرد مساحة للهروب من الواقع، بل صار أداة لتغييره، ومختبرا لتجارب فكرية وجماعية جديدة.
لكن وراء هذا الاندماج الكامل في الفضاء الرقمي، تلوح أسئلة ثقيلة حول العزلة، وضغط المقارنة، وتآكل العلاقات الإنسانية المباشرة. فحين يصبح التواصل الافتراضي بديلا عن الحضور الجسدي، تتغير لغة المشاعر نفسها، ويتحول الانتباه إلى عملة نادرة. ومع ذلك، يصر هذا الجيل على أنه أكثر ارتباطا بالعالم من أي وقت مضى، لأنه قادر على أن يكون في كل مكان في آن واحد، يراقب ويتفاعل ويؤثر.
في النهاية، تُظهر هذه الدراسة أن فهم جيل Z المغربي لا يكون من خلال الحكم عليه بعين الجيل السابق، بل عبر الإنصات إلى إيقاعه الخاص. فهو جيل لا يفصل بين الواقع والافتراض، يرى العالم من خلال الشاشة، ويعيد اختراع ذاته كل يوم بلمسة وإيموجي ومقطع قصير. ومع كل ضغطة “إعجاب” أو “مشاركة”، يكتب هذا الجيل قصة مجتمع جديد يتشكل في الخفاء، مجتمع متصل لا يعرف انقطاعا، ويمشي بخطى واثقة نحو مستقبل تُديره الأصابع أكثر مما تُديره المؤسسات.
ما الذي ينتظره شباب جيل Z من المدرسة والجامعة؟
جيل Z المغربي – أول جيل وُلد في ظل الإنترنت، وعاش طفولته بين الشاشات لا يرى في التعليم كما عرفه آباؤه أداة للترقي الاجتماعي فقط، بل تجربة ينبغي أن تكون محفزة وتفاعلية وشخصية.
دراسات تربوية حديثة، من بينها استطلاعات الرأي التي أنجزتها مؤسسات مثل OpinionWay Maroc وIPSOS خلال السنوات الأخيرة، تكشف أن هؤلاء الشباب ينتظرون من المدرسة والجامعة المغربية أكثر من مجرد تلقين الدروس: يريدون فضاءات تعلم حية تحترم الإبداع وتُكافئ الفضول، وتربط بين المناهج النظرية والحياة الواقعية.
يقول أحد الأساتذة في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء: “طلاب اليوم يملكون مصادر معرفة أكثر من أساتذتهم، لكنهم يبحثون عمن يمنحهم المعنى”. فجيل Z لا يطلب من المؤسسة التعليمية أن تزوده بالمعلومات، بل أن تساعده على تفسير العالم، على أن يفهم ما وراء الأرقام والمفاهيم. هم لا يريدون نظاما صارما من القواعد، بل تجربة تعليمية تُمكّنهم من تطوير الذات، واكتساب مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، وريادة المشاريع.
في الاستطلاعات، يقول أكثر من 60% من الشباب المغاربة إن التعليم في صيغته الحالية “لا يُعدّهم للحياة المهنية”. ويعبر كثيرون عن شعورهم بأن البرامج الدراسية بعيدة عن واقع السوق، وأن الجامعة لا تواكب التحولات الرقمية السريعة. فبينما يتسابق العالم نحو الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر، ما تزال المناهج، في رأيهم، حبيسة نماذج القرن الماضي.
جيل Z المغربي لا يُخفي إحباطه من النظام التعليمي، لكنه لا يفقد الأمل. هو جيل ناقد لكنه بناء، يسائل أكثر مما يشتكي. يريد أن يرى في المدرسة فضاء للابتكار، وفي الجامعة مختبرا للمستقبل. يريد أن تُدمج التكنولوجيا في الفصول الدراسية بشكل فعلي، وأن يتعلم من خلال المشاريع والبحث والتجريب، لا من خلال الحفظ والاستظهار. يرى في التعليم وسيلة لاكتساب المهارات التي تمكنه من النجاح في عالم متغير، لا مجرد شهادة تُعلق على الحائط.
وما يميز هذا الجيل أيضا هو أنه يبحث عن المرونة. فهو لا يؤمن بمسار مهني واحد، بل يتصور حياته رحلة من التجارب المتعددة. لذلك يريد نظاما تعليميا يسمح له بالتنقل بين التخصصات، وبالدمج بين العمل والدراسة، وبين الشغف والمهنة.
وفي المقابل، يلاحظ خبراء التربية في المغرب أن المؤسسات التعليمية بدأت تدرك تدريجيا هذا التحول. فهناك مبادرات لرقمنة الدروس، وإدخال مشاريع رقمية وريادية في التعليم العالي، ومحاولات لربط الجامعات بالمقاولات والمجتمع المدني. لكنها خطوات ما تزال بطيئة مقارنة بتوقعات جيل يعيش في زمن السرعة، ويقيس كل شيء بإيقاع التكنولوجيا.
في عمق هذا التحول يظهر سؤال أكبر. هل المدرسة المغربية قادرة على إعادة اكتساب ثقة جيل يشعر أن المعرفة أصبحت في متناول يده دون وساطتها؟ التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تحديث البرامج أو تجهيز القاعات، بل في إعادة بناء علاقة الثقة بين المتعلم والمؤسسة. فجيل Z لا يبحث عن معلم يُملي بل عن مرشد يُلهم، لا عن نظام يُقيد، بل عن تجربة تُحرر.
في نهاية الحديث، يقول حمزة بابتسامة: “أنا لا أريد أن أتعلم فقط لأجد وظيفة، أريد أن أتعلم لأفهم نفسي والعالم”. هذه الجملة البسيطة تختصر فلسفة جيل جديد من المغاربة، يرى في التعليم رحلة نحو الذات بقدر ما هي نحو المستقبل. جيل لا يريد أن يدرس، بل أن يُشارك في صناعة المعرفة، وأن يكون التعليم بالنسبة له تجربة إنسانية حية، تُمكنه من أن يكون فاعلا في مغرب يتغير كل يوم.
طموحات جيل Z المهنية
تشير الدراسات الحديثة، من بينها تقارير OpinionWay Maroc وPwC وOCP Policy Center، إلى أن شباب جيل Z في المغرب ينظرون إلى العمل بمنطق مختلف عن الأجيال السابقة. فهم لا يسعون فقط إلى “وظيفة مستقرة”، بل إلى تجربة مهنية ذات معنى. يريدون أن يشعروا أن ما يفعلونه يترك أثرا سواء في المجتمع أو في البيئة، أو حتى في ذواتهم. وبالنسبة لهم، النجاح لم يعد يُقاس بطول سنوات الخدمة، بل بدرجة الرضا الشخصي والإبداع والمرونة.
يعتبر أكثر من 70% من شباب هذا الجيل، وفق دراسات محلية، أن التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية هو أول ما يبحثون عنه في أي عمل. فهم جيل يرفض فكرة التضحية بالحياة مقابل الوظيفة. يريدون أن يعيشوا كما يعملون، وأن يعملوا بشغف لا تحت الضغط. يفضلون بيئة عمل تشجع على الحرية والابتكار والعمل الجماعي أكثر من تلك التي تُدار بالتراتبية والبيروقراطية.
يقول أمين، مهندس برمجيات في الرباط: “أريد أن أعمل مع أشخاص يشبهونني في القيم، لا فقط في المهارات”. هذه الفكرة (الانتماء إلى ثقافة الشركة لا فقط إلى عملها) أصبحت محورية لدى جيل Z. فالشباب اليوم يبحثون عن مؤسسات تشاركهم رؤيتهم للحياة، وتتبنى قيما مثل الشفافية والمسؤولية الاجتماعية والاستدامة. بالنسبة لهم، بيئة العمل هي مرآة للذات، لا مجرد مكان لجمع الدخل آخر الشهر.
أما في مجال التعليم، فجيل Z لا ينظر إليه باعتباره مرحلة منفصلة عن الحياة المهنية، بل امتدادا طبيعيا لها. كثير من الشباب اليوم لا ينتظرون التخرج لبدء مسارهم العملي، بل ينخرطون في التدريب والمشاريع الرقمية والعمل الحر في وقت مبكر. الجامعات لم تعد مصدرهم الوحيد للتعلم، فالمعارف اليوم تُكتسب عبر الإنترنت والدورات القصيرة والتجارب الواقعية. لذلك يطالبون بتعليم أكثر مرونة يدمج المهارات التقنية والرقمية ويمنحهم القدرة على التكيف السريع مع التحولات المهنية.
جيل Z المغربي يدرك أن سوق العمل يتغير بسرعة وأن المهن الكلاسيكية لم تعد ضمانة لمستقبل آمن. ولهذا، نراهم ينجذبون نحو مجالات مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال والبيئة والاقتصاد الإبداعي. إنهم جيل يؤمن أن بإمكانه أن يصنع فرصه بنفسه، وأن الاستقلالية الاقتصادية ممكنة خارج الوظيفة التقليدية.
ورغم كل هذا الطموح، يعيش كثير منهم شعورا بالقلق من المستقبل بسبب هشاشة سوق الشغل وتراجع الثقة في المؤسسات وصعوبة التوفيق بين الحلم والواقع. لكن ما يميز هذا الجيل أنه لا يستسلم. يبتكر طرقا جديدة للنجاح، يخلق مشاريع صغيرة على الإنترنت ويبيع مهاراته عبر المنصات الرقمية، ويبني مساره قطعة قطعة بإصرار وصبر.
من جهة أخرى، يُظهر هذا الجيل حسا قويا بالمسؤولية الاجتماعية. فالكثير من شباب المغرب اليوم يربطون بين مهنتهم وقيمهم. يريدون أن يكونوا جزءا من مشروع له معنى، وأن يعملوا في مؤسسات تحترم البيئة وتُشجع المساواة، وتمنحهم صوتا في القرارات. بالنسبة لهم، العمل لم يعد مجرد وسيلة للعيش، بل طريقة للمشاركة في بناء مجتمع جديد أكثر عدلا واستدامة.
تقول سلمى بابتسامة متفائلة: “لا أريد وظيفة مدى الحياة، أريد رحلة مهنية تتطور معي”. ربما تلخص هذه العبارة روح جيل كامل من المغاربة الذين وُلدوا في زمن مفتوح على كل الاحتمالات، ويبحثون عن التوازن بين الطموح الشخصي والمعنى الإنساني، بين الحرية والمسؤولية، بين العمل والذات.
جيل Z لا ينتظر من الدولة أو المؤسسات أن ترسم له طريقه، بل يريد أن يشارك في تصميمها. هو جيل لا يطلب الأمان فحسب، بل يبحث عن المغزى والعيش حياة مهنية تُشبهه، ويصنع فيها أثرا قبل أن يصنع سيرة ذاتية.